وأبحثُ عني، بين الإيمان والعدم، وأموت كثيرًا، ولا أصل إلى نقطة النور !!
كنت في طفولتي البائسة
– فن عمر الإدراكِ المبكّر –
كثيراً ما أمشي خلف السيارات،
اتحسس الأضواء الخلفية.
ناشراً أسألتي والكثير من علامات الاستفهام، ولاضوء في عتمة المكان، والمدينة خالية من كل الأرواح الطيبة.
وأسألتي تخترق الضباب
كـدمى صُنِعت من الثلج
كأزلام الجاهلية نُثِرت، كأصنام “قريش”،.
قبل الفتح الفتح العظيم.
وامقُت الأسوار القديمة والمسافات الشاسعة والأشارات الضوئية الحمراء
وأسأل جاري العجوز عميد الكهولة بجنونٍ لا منطقي :
أين الله في كلّ هذا الكون يا سيدي؟!.
وأسأل ثم أسأل يا إخوة التاريخ والدين والعرق وربما القبيلة.
لماذا لسنا سوى ثلة جنودٍ حمقى مرتزقة كثيري الفِسق والكفر (نقتل من لا نعرف لأجل من لا نعرف أيضاً؟!.)..
وفي ساعة استراحةٍ هزلية، غسلت من يديّ الدماء، حان موعد الأغاني الوطنية، لكنّ نادِل المقهي القديم ضايقني جداً بحديثهِ عن الموت المكثّف، وبضحكته الساخرة، برائحته العتيقة، بعرق جبينه، بملامح الكد والعناء، يكابد الحياة وينشد انا كادح كادح انا سجين في دولة همجية.
وكفكف الدموع بمنديل ابنته الصغيرة البريئة التي اغتيلت حين عودتها من المدرسة الإبتدائية، وأخذ احلام ابنه الصغير في كراسة عشبية، وكل الدمى الخشبية وقال في وجل وحزن (وحده الحانوتي من يعِش في هذي الديار، وحده السفاح من يبقَ، من ينصب خيمته على جماجم الصغار) !!
ونحن لسنا سوى شعبٍ يعشق الطرق الممهدة للمقابر
ووحدهم الأموات،
تركوا الأسألة كأوراق الخريف (لماذا قُتِلنا؟!.)،
وألف سؤال، وألف سؤال؟
ألَم يَتّسِع الوطن للجميع؟
أليسَ الوطن كبير جداً، يكفينا جميعاً؟
ألا يوجد بالوطن ماء كثير، مطر غزير، خير وفير، مدنٌ وقرى، وكل مقومات الحياة، ولوحة دنيوية عبثية تحتاح الى التشكيل، ولكن عبثت بها يدٌ عشوائية؟
لماذا نقتل الإنسان فينا إذن؟
ثم تركوا ارواحهم كأوراق شجرة القيقيب المضرحة باللون الأحمر تلون العالم من خلفهم بلون السواد من بعد احمرار.
توقفت قليلاً عن هذياني، ثم صرخت بنفسي قائلاً
ً
هذا ما عرفته !!
بعد عقدين من الزمان ونصف قضيتها على مقعد الاحتياط، او مكان بعيد جداً عن الحدث، وربما في منفىً داخلي، مهجرٌ أنا في هذي الحياة ومنها ..
بتّ الآن أعرف طعم السفر في غابات اليأس، معنى أن تقطع ألف ميلٍ بلترٍ واحدٍ من الأمل !!
وبرائحة عطرٍ صنعت من عرق العمال والفلاحين والفقراء المعدمين (الطبقة المسحوقة)، عليها علامة مبهمة، معلقةٌ حول عنقك ..
وحينما تُنهَك، تَنهار قواك، تتعب، وتثخنك الأسفار.
تأخذ جانب الشارع القديم قليلًا إلى جانب الطريق الرملي
وتلعق جروحك، تتناول كسرة خبز عُجِنَت بدموع اليتامي، أعدّتها إيدي الأمهات المكلومات، والأرامل والأيامَي، لها مذاق الخوف والجوع والتشرد !!
تتلوى كمحاربٍ عُثمانيٍ مصابٌ بعيارٍ ناريّ ثم تبكي بحرقة وتتسائل مالذي جناهُ العرَب ؟!.
وربّما تتمرغ بالتراب الاسود، بجانب الأضرحة المقيتة، وتستنشق هواء الخرافة، تقبل قدمي تمثال بائسٍ لرجل تافة قد أعلَن التأريخ لعنتَه ووعد بالحرية الأكثر كلما كانت اللعنة أكبر ولبئس المسخ هوَ !!
وتمضي أمام نفسك ببطء شديد ممسك، بزمام أمرك، مصيرك، بقدرك، لا حكم لأحد عليك إطلاقاً ..
وتمضي كغريبٍ لا يعرفه أحد.
وإن تسألكُ الطفولة من انت؟
فقُل أنا عصفورٌ شارد.
تعلمتُ من “إيكاروس” حبّ السماوات والتحليق بعيداً عن تلك الأرض الظالمة.
علمني الطيران ولم يعلمني أنّ الطيور تقع وأن الشموع تذوب وأن الشموس ليست إلا تماثيل المواجع الملونة .
فلما طرت..
جرحتني الغيوم، وبللني المطر ..
لا لم يكن مطراً بل كانت دموع الوطن حين عُزِفت موسيقى (قداس الأرواح) ..
تربكني النظرات، وتثيريني التوهمات، ويقتلني الصمت وأحلام اليقظة أيضاً !!
أعيش على الوهم دهراً، وأُمني نفسي وأحلُم لأن الأحلام بالمجّان.
آهـٍ لو أنني قادرٌ على شقِّ البحر
– كما فعل “موسى”
لكن فرعون غادر المسابقة، اختصر المسافة ليتركني سخرية بين الأنبياء !!
ولم تكن التي بيدي عصى موسى، ولستُ سليمانً لأملك الرياح !”
آهـٍ لو أن لي صوت الرّعد ليعلو صوتي صوت الرصاصِ والمدافع، آهـٍ لو أنني خارقٌ كالبرق لأحرق الطائرات الحربية، صلبٌ كالفولاذ لا أرحم قاتلاً ابدا !
قد أتقمص أرواح قتلىً معذبين
أخرج في الليل، وأمشي في الطرقات، وأسبح في الظلمات
أنادي قرب الشرفات،
على أشخاصٍ لا أعرفهم، على أسرى الخطيئة، أنثر المغفرة، وامطر ماءً من صلواتٍ غيث من رحمات.
أو أنْ أشاهد التلفاز والقنوات الحكومية، وأقرأ الصحف الصباحية وأستمع إلى الراديو ايضاً، كمؤمنٍ بالتطبيع، كأي فردٍ من القطيع.
وأضحك على اتساع غرفتي من المقاومة، والصور الثورية تملأ الحائط، تُثقِله !!
وأتحدّث لآخر عقدةٍ في ذاتي
وألعب دور الأرستقراطيٍ رفيع المستوى (هابط القيم، رخيص النفس) ..
وأحتقر لقطاء هذا العالم الوضيع
هؤلاء الرعاع، الجائعين، مدّعيي الأناقة، أبناء الطبقة الوسطى.
أو أن أرتدي
سلسال غريب حول العنق
وساعةٍ فضيةٍ غليظةٍ
ملابس سوداء، توحي بقاتلٍ مأجور، بفردٍ من المافيا الدولية، وأضع نظارات شمسية، وأعيش نهارً دور الجلاد، وبالليل دور الضحية.
وفي الليل أعود إلى تلك الخرابة
كـجندي (تتاري) يمشي بخيلاء
ترك العالم خلفه خرابًا ولم يغسل يديه من دم طفلة عربية.
ينزف قتلى، وخلفه سلسلة طويلة بها أسرى من إحدى القبائل العربية، (اللاعربية) !!
وتسرقني كل ثلاث ليالٍ دورةٌ عقليةٌ مرهقة، دوامة عدمية ..ٌ
أكون متمماً للإيمان في أولها،
ثم يتربص بي الشك ناعمًا وخفيفًا وفي جنح اليأس من كل شيئ، يقترب مني ليتلبسني !
ليغرس رمحه في كبد الاعتقاد،
ليدمي الإيمان ويزعزع اليقين ..
وأحاول نضالًا عبثاً الوقوف.
ومع اكتمال القهر
أكون محبًا للطبيعة وحدها
لا شريك لها
كامل الأنياب صلباً حاد المخالب.
أعرف الآن طعم لفافات التبغ
الّتي ليست لعراف عصبتنا، ولا لقيادتنا السياسية.
ولفافات الصّبر، متاهات مشحونة بالحياة والموت.
لم لا أكذب على اخوتي الصغار في وطني (فالكذب في وطني مباح).
– تفائلوا أيها الصغار عمراً، البالغون من القهر والحرمان دهراً،
فالغد يحمل العصافير والبالونات والدمى الوردية.
الحلوى بالمجان، والملاهي وكل السلع والمتع الطفولية (تفائلوا فنحن في وطن نقتل فيه على الهوية) !!
لا تخشوا أيّ شيء.
لا برميل ولا طائرات التحالف، لا شيء يُخشَى فلسنا في الغابة ولا البرية !!
إن العالم اليوم أرقّ من جناح فراشةٍ، وأشهى وألذ من عسلٍ النباتات البرية.
وأجمل من قلوب كلّ الأسماك، والطف من حمامة الجامع الأموي.
تنتابني هذه الأيام نوبات صحوٍ وجنون مؤقت.
لا يتركني الحاضر لنفسي، أكثر من فاصلٍ اعلاني هزلي !!ّ
وفي بداية كل حياة من الحياة
يحاصرني كفريسةٍ مريضة لاتستطيع الفرار ولا تقوى المقاومة(ينهش لحمي) ..
يوزع وعيي على أطفال الخيام
كالبكتيريا في بركة دماء.
وبعد ألف عام بالسنة الشعرية،
ستباغتني ابتني التي لم تخلق بد ولازلت على قيد العزوبية كطائرةٍ استكشافية :
كيف يا أبي كنتم تشاهدون التلفاز والقنوات الحكومية
وبلا روائح بديلة او الوان خشبية، تستحضر الصورة العالقة في ذهنِي، في غيبوبتي الأبدية !!
وتدمج الشك بالأعصاب، والحزن بالأسى؟
سأجيب بتلقائية
هكذا كانت الحياة يا “حلوتي الصغيرة”
وأصمت خشوعاً..
وتتجمد عينيّ في دموع أزلية
حزنًا على ذكرى،
كانت تقوض عمري حينها
ومالي غنىً عنها!
لا أعرف لماذا كان الناس في قريتنا الصغيرة، ينامون قبل موعد النوم بساعتين،
كغربانٍ تعرف جيدًا ما تفعله،
على الرّغم من أنّ النوافذ،
كانت تتحرك طيلة الليل والستائر شاهدة.
كان الناس يذرعون الشارع المؤدي إلى المدينة، من أوله، إلى أوله،
كبندولٍ ساعةٍ جدارية.
الآن فقط عرفت جيدًا
كم كنت طفلًا ساذجًا، مسكين، بسيط، كمالك الحزين مقصوص الجناحين، عظامي مكسورة.
كسنابل القمح ممتلأ بالأسألة.
أراد أن يكون صحفياً مثيرًا للجدل، ينقل معاناة اهل القرية ..
وصاحب رداءٍ سحريّ بخيوطٍ فسفورية.
من قلبه.
ولم يكن له من الواقع
الا الرماد الأحمر، ولروحه الصبر والسلوان.
يسد مجرى روحه، ويردد انا ذاك الإنسان، ذاك الإنسان